كانت امرأة شابة يافعة، مازالت في نضارتها وقوة شبابها، التقيت بها في طريقي إلى الجامعة، فشدت انتباهي بنظراتها الحائرة، وحركاتها غير المتزنة.
وفجأة رأيتها تميل على حائط توشك أن تقع، فركضت وأمسكت بها وساعدتها في الجلوس..
كان وجهها شاحبا تعلوه صفرة خفيفة، وقطرات تبلل جبينها، سألتها: هل أستطيع أن أساعدك بشيء؟
أم أنك ترغبين بأن أتصل بأحد أفراد أسرتك؟ ولكنها لم تجبني، فكررت عليها سؤالي، إلا أنها كانت سابحة في عالمها، شاردة الفكر، وكأنها لا تسمع صوتي، ولا تنتبه لوجودي...
بعدها بوقت قصير، حركت يدها وبإشارة خفيفة، طلبت مني أن اسقيها ماء، فأسرعت ولبيت طلبها، فتمتمت بصوت منخفض: الحمد لله.
ثم ضمت يدي بشدة، وابتسمت لي وقالت: شكرا لك أختي، أنا الآن أحسن حالا، يمكنك أن تنصرفي، حتى لا تتأخري عن عملك.
ولكنني عجزت أن أرحل وأتركها بمفردها، أحسست من نظرتها، من نبرة صوتها، بما تقاسيه، فقلت في نفسي: إنها تحتاج لوجودي ولن أتخلى عنها، فقررت أن أمضي معها وقتا أطول حتى أطمئن عليها...
أخذت أحدثها وهي تنصت لي ولا تنطق بكلمة، ومضى زمن قصير، بعدها قالت لي: أرغب في أن أخبرك بمشكلتي، أشعر أنك ستفهمين ما سأقوله لك، لا أعرف لماذا، ولكنني بحاجة لمن ينصت لحديثي، من غير أن يعاتبني، أو يحملني مسؤولية ما حصل..
كنت أدرس في الجامعة قبل أن يتقدم لخطبتي رجل من معارف والدي، كانت أسرتي سعيدة بهذه الخطبة، فظروفه المادية جيدة، وسمعته طيبة، والجميع يثني عليه ويمدح فيه، فوافقت على هذا الزواج، بعد مباركة أهلي له، وانتقلت لبيت زوجي، كنت سعيدة بهذا الاختيار، لم أشك للحظة أن هذا الرجل كان يضع أمامي وأمام الناس قناعا اجتماعيا، قناعا مزيفا يخفي تحته معالم صورته الأصلية...
ومضت أشهر قليلة وعرفت الحقيقة، ورفع الستار أمامي، فرأيت وجها آخر غريبا عني، حينها اكتشفت أنني تزوجت شخصا آخر غير الذي خطبني، واخترته ووافقت على أن يكون شريك حياتي
لقد اختارني لأكون مديرة بيته، أرتبه، وأنظمه، وأراعي شؤونه، وأخدم أهله وضيوفه، أما كزوجة فلا
أنا كنت أحب بيتي، وأحب أن أوفر لزوجي جوا مريحا وهادئا، حاولت أن أكون مثال الزوجة الصالحة والمخلصة ولم يكن يضايقني أن أخدمه ولا أن أخدم كل أفراد بيته وكذلك ضيوفه، ولكنني في الوقت نفسه كنت أحتاج أن أشعر بأنني زوجة، وأن لي مكانة وقيمة وكلمة واحترام، كان يكفيني هذا الإحساس الجميل، ولكنها مشاعر لا قيمة لها عنده ولا وجود لها إلا في أحلامي...
لم نكن نعيش وحدنا، بل مع أسرته الكبيرة، ولم يكن لنا عالمنا المستقل كزوجين، بل حياته كلها مشاريع وصفقات ولقاءات متواصلة مع أصدقائه وزملائه في العمل، ونقاشات وحوارات لا تنتهي، كان البيت واسعا وجميلا وفاخرا.
ولكنني لم أشعر بداخله بالدفء والسكينة والراحة، ربما لأنه لم يكن حقا بيتي، أو ربما لأنه لم يكن ُمرحَّبا بي وبوجودي، كنت كدخيلة غريبة، ليس لي مكان بينهم، كنت أشعر وكأنني موظفة في مؤسسة من المؤسسات التي كان يديرها زوجي، وعلي أن أنجز عملي بإتقان، وألتزم بنظام معين، وأعراف خاصة , كنت أقضي يومي في ترتيب البيت وتنظيمه وتهيئة وجبات الطعام..
وتمر الساعات بطيئة، وشعوري بالوحدة يتعبني، ومع أن أهل زوجي كانوا يعيشون معي، ولكنهم لم يتقبلوني كابنة لهم، بل ولا كزوجة لابنهم، فليس من حقي التدخل بشؤونهم، ولا مشاركتهم في أحاديثهم أو اهتماماتهم، كان يفصل بيننا جدار عال جدا، كنت كلما حاولت أن أهدمه أجده يعلو ويعلو ويعلو.
فاستسلمت لوحدتي، وعزلت نفسي عنهم، حتى زوجي كان في صفهم، يتعامل معي بنفس الأسلوب وبنفس المنطق، بل حياته كلها يقضيها خارج البيت فلا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، فقط ليخلد للنوم، حتى من غير أن يجلس معي قليلا أو يحدثني، أو يشاركني في بعض اهتماماته وأمور عمله، أو يستشيرني في أمور حياته
حاولت كثيرا أن أقحم نفسي في بعض شؤونه، وأحيانا أنتهز الفرص وأحدثه في مواضيع متنوعة، حتى أكسر حاجز الصمت بيننا، ولكنه للأسف كان يصدني، ويكرر علي نفس الجملة: أنا الآن متعب جدا ولست مستعدا لسماع المزيد، حينها كنت أكلم نفسي وأقول: كل هؤلاء الذين حولك تنصت إليهم بالساعات إلا أنا لماذا؟ كل هؤلاء تتحملهم رغم التعب والإرهاق إلا أنا لماذا؟
لم أكن أرغب في أن أحجر على حريته، ولا أن أصرفه عن عاداته مع أنها كانت تضايقني، ولكني كنت أحب أن أحظى باهتمامه وبرعايته وبنصيب من وقته، وأن يمنحني وسط زحمة مشاغله والأعباء التي على كاهله، مساحة من الزمن أشعر خلالها بوجودي في حياته وفي عالمه، وبأنني كذلك أعني له صفقة رابحة من بين صفقاته، التي يمنحها كل تركيزه، وكل وقته.
كم كنت أغار ممن حوله وممن يلتقون به ويجلسون معه، لأن سعادته معهم، وفرحته معهم، وحياته معهم، يشاركونه ما عجزت أنا عن مشاركته إياه، كل هؤلاء كانوا يتحركون ويعيشون في عالمه لهم وجود حقيقي، يقضي حاجاتهم، يسعى لراحتهم ولإسعادهم، كريم معهم بسخاء، إلا معي فهو بخيل في كل شيء، ربما لأن كل رصيده يصرفه عليهم فينسى أن هناك ببيته زوجة تحتاج لقسط من هذا الرصيد.
كنت أقضي وقتي، في تهيئة موائد الطعام لأسرته ولضيوفه، حتى تحول مطبخي إلى غرفة نومي وبيت راحتي، كنت أحلم أن يتبقى لي وقت أخصصه لنفسي، أتجمل وأتزين كما تتزين الزوجة لزوجها، وتستقبله عندما يعود لبيته، ولكن أين زوجي الذي سأستقبله؟ كان دائما برفقته ضيوف وأصدقاء... حينها لا أملك أن استقبله، بل علي أن أبادر بخدمة هذا الفوج لساعات، ويتكرر هذا يوميا
كنت أصِّبر نفسي، وأقول: لعله يتغير، ولكن للأسف وجدت نفسي وبعد مرور سنوات أنني أنا من تغيرت، انطفأ ذلك البريق، واحترقت تلك الشمعة المضيئة ببيت أهلي، نسيت نفسي وهواياتي وأنشطتي العلمية، نسيت أشياء جميلة ومفيدة، كانت في الماضي سر بريقي وجمالي، بل نسيت أنني مرأة، وتدهورت حالتي النفسية والصحية
فتجرأت وصارحت زوجي بمعاناتي، وعبرت له عن رغبتي في أن يوفر لي حياة طيبة كريمة، وأن يغير من عاداته، ومن أسلوبه في التعامل معي، لأنني ما عدت أقدر على أن أتحمل حياة كهذه، فأجابني بسخرية: ولماذا تزوجت بك؟ سألته: حقا لماذا تزوجت بي؟
ابتسم وأجابني: لا أحب أن أدخل لبيتي امرأة غريبة تدير شؤونه، وتكشف أسراري الخاصة وأسرار أسرتي للغرباء، فقررت أن أتزوج، فوقع اختياري عليك، عندما علمت من والدك أنك إنسانة مهذبة وهادئة ومطيعة وخدومة، فوجدت فيك الصفات التي أحتاجها في المرأة التي أرغب في أن تتحمل مسؤولية خدمتي وخدمة بيتي وتوفير راحتي.
حينها صعقت وأنا أنصت لجوابه، فقلت له: هل تزوجتني فقط لأنظم لك حياتك وهذا البيت وأدير شؤونه وأحافظ على أسراره؟
أجابني وهو يضحك بصوت مرتفع: طبعا تزوجتك لهذا السبب، ولماذا يتزوج الرجل، أليس ليجد امرأة تريحه؟
سألته: وماهي الراحة بالنسبة لك؟ هل بوجودك طول الوقت مع ضيوفك ومع أصدقائك ومع أفراد أسرتك؟ أين وجودي أنا في حياتك أخبرني؟ ألست زوجتك من عليك أن تشاركها أفراحك واحزانك؟ ألا تشعر بالراحة معي؟ ألا يسعدك أن تقضي وقتك معي أكثر من الآخرين؟ وما معنى كوني زوجتك؟ أجبني ما معنى كوني زوجتك؟
سكت وطأطأ رأسه، وكأنها أسئلة غريبة ثم قال لي: أنصحك أن لا تشغلي تفكيرك بهذه الأسئلة التافهة، ومن الأفضل لك أن تهتمي بمظهرك وأناقتك، وما دمت تتحدثين عن حقك كزوجة، لا تنسي حقي كزوج، والذي يحتم عليك أن تكوني أمامي بصورة جميلة وبشكل يليق بك كزوجة تحب إسعاد زوجها، أم أنك نسيت هذا، أم أنه ليس من حقي، أنظري إلى المرآة أمامك وحدقي بشكلك وبملابسك وبزينتك ربما تفهمين قصدي؟
جلست أضحك وبصمت، وأردد بداخلي من عجزي ومن قهري: أعتني بمظهري آه ثم آه، وظلت الآهات بداخلي تزلزل كياني، تصرخ بي وبصوتها العالي تردد: أنظر لنفسي في المرآة، أعتني بمظهري وبشكلي كيف ومتى؟ إذا كنت لا أغادر مطبخي إلا للنوم مباشرة، ومتى أعتني بنفسي، ومتى أحافظ على جمالي وبهائي، هل تحت البخار المتصاعد من الفرن، أم عند أكوام الأطباق والصحون التي لا ينتهي تنظيفها..
وهذا البيت العريض الواسع من ينظفه ويرتبه؟ ألست أنا الوحيدة التي تتحرك فيه والباقي ضيوف، حتى تحولت لشبه إنسان آلي لا يتوقف عن العمل طول النهار، وحين يخلد الجميع للنوم والراحة، يصير من حقي أن أنام.
فهل في رأيك أختي أأملك حينها ووقتها أن أعتني بجمالي ومظهري وأناقتي، لأبدو لزوجي كعارضات الأزياء، وأنا لست إلا عارضة موائد الطعام ووووو؟ هل يسخر مني، أم أنه لا يعرف الواقع الذي أعيشه، أم أنه لا يفكر إلا بحقه كزوج ولكن حقي أنا لا يهمه، وإحساسي أنا كمرأة وكزوجة لا قيمة له عنده.
أتعرفي أختي أنه صار مؤخرا يهددني بأنه سيتزوج بامرأة أخرى تتفهم ظروفه، وتعتني به وتسعى لراحته، وأنه يود أن يشتري لها منزلا جديدا يليق بها، ماذا أفعل؟ كيف أتخلص من هذه الحياة التي فقدت فيها نضارتي، وشعوري باحترام كرامتي كمرأة وكزوجة، من المتهم هل أنا أم زوجي أم من؟
هل أطلب الطلاق؟ أم أصبر وأتحمل حياة بئيسة كهذه؟ إن صح أن أطلق عليها كلمة حياة، لأنني فقدت خلالها كل معاني الحياة؟ هل أتركه يتزوج، وأنا مهضومة الحقوق؟
هل أمنحه حقوقا أكثر مما أخذه وما زال؟ هل تعتقدي أن من حقه في ظروف كهذه الظروف التي أرغمني فيها على ما أكرهه وأمقته أن يطالبني بالاهتمام بمظهري وبأناقتي؟ وهو لم يساعدني على ذلك، ولم يوفر لي حياة مريحة تيسر لي سبل العناية بنفسي..
رجاء ساعديني لأجد حلا للخلاص من حياتي هذه، أنا فعلا تعبت، لقد كرهت ذلك البيت وكرهت حياتي مع زوجي بهذا الشكل وأخشى ان أكرهه إن استمر في إهانتي.
حاولت أن أهدئ من ثورة جموحها، ومن غضبها المشتعل بركانه في قلبها، أحسست بأنها لم توشك أن تقع إلا لأن زلزالا بداخلها يتحرك، ولأن الأرض لم تعد تحمل هذا الجسد النحيل، إنها جميلة وشابة، ولكنها فقدت بريقها، فقدت إحساسها كأنثى، فقدت أشياء جميلة ورائعة تتمناها كل زوجة، إحساسها بكرامتها و باحترام زوجها لها وبإنسانيتها، وبوجودها
ولكنني لم أستطع أن أفصح لها بما راودني، وبإشفاقي على حالتها، احترت حقا فيما يمكنني أن اقدمه لها كمساعدة، هل أنصحها بالطلاق إذا كرهت هذه الحياة، وأشجعها بذلك على خراب بيتها، هل أقول لها عليك أن تلبي طلبه فهذا حقه.
وهي تشعر بضغط نفسي وجسدي يمارس عليها، هل أحملها ضغطا آخر فوق قدرتها على التحمل... وسكت وبداخلي ألف سؤال وسؤال وألف جواب وجواب، ولكنني لا أملك إلا أن أكتم ذلك بداخلي، كنت حقا أريد أن اساعدها وفي نفس الوقت كنت أريد أن تحافظ على بيتها مهما اشتدت معاناتها، وضغطها..
بعدها قررت أن أبوح لها ببعض الحلول الممكنة، قلت لها: سأطلب منك طلبا وعديني أن تنفذيه ليس لأجلي ولا لأجل زوجك، ولكن هذا العمل ستقدمي عليه لأجل الله، ولعله يكون فرجا لكربتك.
أنت صبرت سنوات، فماذا يضرك لو ضاعفت صبرك ولك الجنة، حاولي أن تساهمي في تغيير طباعه وبعض عاداته التي تفسد حياتكما معا، اشعريه بحبك لبيتك، وأسعديه قدر ما تستطيعين، حققي له طلبه، وحاولي أن توازني، وتخففي من أعباء البيت بمساعدة بعض أخواتك أو جاراتك أو صديقة مقربة تثقين بها
تأكدي أن لكل مشكلة حلا، ولن تعدمي الحل لو استخدمت الحكمة، وتحررت من إحساسك بالضيق والكره لحياتك الحالية، فكري أن تصبحي أما، فالأولاد يبعثون في حياة الأزواج حياة جديدة وروحا مختلفة، تشغلهم عن عاداتهم السالفة...
حاولت أن أقنعها أن تحافظ على بيتها وزوجها، فلعل فيه محاسنا لم تكتشفها، أو لم تحسن اكتشافها، لأنها لم تمتلك بعد مفتاح هذا الاكتشاف.
في النهاية قالت لي: سأحاول ليس تلبية لطلبك، ولكنني سألبيه لأنه عمل أتقرب به إلى الله، وأرادت الانصراف، وقبل أن تقوم من مقعدها، سألتني: هل استطيع أن أسجل رقم هاتفك لأتصل بك بين وقت وآخر وتتصلي بي لتطمئني على أحوالي، أضفت رقم هاتفي لقائمتها وأضفت رقم هاتفها عندي، وودعتها وانصرفت
وظل سؤال يحيرني: إنها امرأة جميلة فقدت بريقها.. فمن المتهم؟ ثم سألت سؤالا آخر زادني حيرة: هل الحل الذي قدمته لها كان حلا عادلا أم أنني جرت عليها؟
يوما ما سأتخلص من حيرتي لأعرف جواب سؤالي هذا، ربما تجيبني هذه المرأة، وربما أنت أيها القارئ.
الكاتب: صفية الودغيري
المصدر: موقع المسلم